ممر ضيق
بالكادِ فتح عيناه عندما هب واقفاً في منتصفِ المنزل يفرك جفنيه ويبحث عن الفردة الأخرى لحذاءه بلون التراب ،فتح باب الدار القديم والمتهالك على مصراعيه وأخذ يذرع الشارع بخطوات متثاقلة يغني ويصفق تماماً مثل ما كان يفعل الصبية عندما كان يركض خلفهم بحجر وأحيانا بفردة حذاءه الأثري ،يمشي خطوتين ويكرر ،بو سلوم يا مجنون، بو سلوم يا مجنون ..كانت شوارع الحي خالية على غير العادة ،أربكه ذلك قبل أيام ،فقد اعتاد على الركض خلف الصبية الأشقياء ويتعرف على صوت كل واحد منهم ويعرف اسماءهم ،كان رغم كل ذلك يستمتع بلعبة الوشاية، ينتظر الصبية بفارق الصبح في الممر الضيق الذي يفضي إلى المدرسة ويقول كلام لا يذكره ثم يفتح أذنيه جيداً ليلتقف أصوات الأطفال وهم يردون عليه ثم يخرج فردة الحذاء بحركة آلية ويدخلهم بوابة المدرسة يركضون، وبعد أن حصد عدد جيد من الأسماء يذهب ليطرق الأبواب ويخبر الأهل عن ما قاله الأطفال له،ليملئ معدته من هنا و يحصل على القليل من المالِ من هناك و بعض الفواكة من منزل آخر كتعويض من الأهالي واعتذار للرجل المسكين ،وهذا شأنه عندما يحين موعد خروج الأطفال من المدرسة ،يبحث عن حجر قريب ومناسب ويجلس متقرفص ومتأهب للجولة الثانية وتراه يركض خلفهم متجاهلاً الشمس والحر ،لم يمسك بطفل قط ،في سريرتة هو لا يريد، ولكن بالنسبة لهم فهو عجوز خرف لا يقوى على حمل قدميه كانت الجولة الثالثة هي الأكثر متعة بالنسبة له، ولهم ،فيجلس العجوز قبل الغروب ساكناً يتأبط نعليه بجانب البقالة واضعا أسفل ثوبه في فمه ويحرك قدميه إلى الأمام والخلف ويمعن النظر في الوجوه ،يأتون في مجموعة ويقفون مسافة كافية للهرب يرفع أحدهم سبابته إلى رأسه ويحركها بشكل دائري معلنا بداية الجولة ،يصيح بهم صاحب البقالة،رجل آخر يدعوا لهم بالهداية ،وآخر هناك يغسل سيارته ويدعوا عليهم ،وتسمع الفتيات الصغيرات يقهقعن و النساء عند أبواب البيوت يشربن القهوة ويتفرجن على ذلك السرك المهيب،وهكذا يكون أنهى يومه فيذهب إلى داره بعد الغروب، يفتح الباب الخشبي فيبدأ صرصار الليل يعزم لحن يألفه،لحن الاشيء ولاأحد، يغفل الباب ، ويبتلعه الظلام.ذات صباح أفترست أشعة الشمس وجهه في باحه البيت المتهالك ،فز واقف وتأبط النعلان، خرج ينتظر في الممر الضيق ،لا أحد ،توسطت الشمس سمائها ،ولا أحد ،أرتبك،لما الشارع يبدو مثل داره ،خالي بارد وحزين؟هو لا يعلم،أين الأطفال والناس، سأل نفسه وهو يدور حول نفسه بتوتر ،سمع صوت الأذان فأسرع إلى باب المسجد، هنا المكان يشبه بيته أيضا، هو لا يريد ذلك، لماذا وكيف، أخذ يدور حول نفسه مرة أخرى ويحك رأسه بعنف ،ما هي إلى دقائق حتى خرج الإمام يهمهم ،فقفز الآخر أمامه يحدق به دون حراك،أخذه الأمام الرجل من يده وأوقفه في الظل وبدأ يشرح له بلغة سهلة وبسيطة أنه عليه أن لا يخرج من داره بعد اليوم وأن الجميع سيفعل ذلك من الأن إلى أجل غير مسمى ،شرح له أيضا عن ذلك المرض المعدي الذي اجتاح العالم وقال له بحروف واضحه وبشكل بطيء أسم المرض (كورونا)،كان العجوز ساكن ويستمع فأكمل الإمام يشرح فالرجل ليس مجنون بالكامل في النهاية ،قال الأمام وهو يمشي في طريقة :الزم المنزل لسلامتك وسلامة الجميع .مر أسبوع على ذلك الحديث، ولكنه لا يزال ينتظر كل صباح في الممر الضيق يحدث نفسه حتى الظهيرة وفي المساء ينتظر عند البقالة عله يلمح الأطفال أو أي أحد آخر ،هو يشتاق للحديث ،للتظاهر بالجنون الكلي ،ليمرن ساقيه وهو يركض خلفهم ..يشتاق ..يشتاق للمس ،لاكن لا شيء يعينه على ذلك ،حتى نداءاته التشجيعية في الشوارع التي يستحث بها الصبية للخروج وقول ( بو سلوم يا مجنون )لا تجدي ،أصبح الشارع مثل الدار والدار مثل الشارع ،وجهين لعملة واحدة عملة الوحدة ولا شي،لا يذكر منذ متى كان ينتظر لكن لا شي تغير إلا أنه أزداد جوعا،لم يأكل شي منذ ...لا يذكر، لا أحد يفتح له بابه حتى صاحب البقالة يتجنبه متعمدا ،كأنه هو ذلك المرض الذي تحدث عنه الإمام..جرت الأيام بعضها وما من جديد ،أزداد الضجيج في رأسه،كان يهرب من العزلة إلى الشارع ويصنع المواقف مع الناس في الحي ويفتعل لنفسه حياة بينهم، لكن الآن إلى أين يهرب، أصبح كلما لمح أحد في الحي يركض خلفه كالثور الهائج حتى السيارات ،يركض خلفها، يهتف ،يلوح ويصفق(بو سلوم يا مجنون )،يردد ويضحك ،هو ليس على ما يرام منذ الأمس فقد قرصه الجوع ،لكن ذلك لم يمنعه من الشوق للشارع والناس، يفتح عينيه بتثاقل ويحاول الوقوف لكن السعال جعله يتعثر للمره الثالثة ،كان يتصبب عرقاً من فرط المحاولة وبعد نجاحه في الوقوف لم يجد إلا فردة واحدة لحذائيه الاثريين ليتأبطه، كح مرتين ومشى إلى الباب بجسد مرتعش هزيل وثقر باسم، يهمهم ويمشي إلى الممر الضيق خلف بيته ،لا أحد ،لمح سيارة تقترب لكنه لم يقوى على الركض خلفها ،ذهب يجر خطاه إلى البقالة فصاح به صاحبها أن عليه أن يذهب بعيداً كي لا يخيف الناس ،قال بأنه ليس مريض ،أو هكذا ظن ،ومضى ليغيب مع الشمس في داره ،كان الباب مفتوح فدخل لتبتلعه الظلمة ..إلى الأبد.
تعليقات
إرسال تعليق